كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ </A>
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا </A>
.
وإن كان المراد أنها تأتي في صيغ المبالغة المعروفة عند أهل اللغة، فهذا في القرآن موجود، ولكن في القرآن حق، على حقيقتها.
فالذين يقولون الحق بدون مبالغة هؤلاء شعرهم ممدوح، والذين يقولون شيئا لا يُفعل أو شيئا لا حقيقة له أو زائدا عن الحقيقة، فهذا شيء مذموم والقرآن بحمد الله -جل وعلا- ألفاظه مطابقة لمدلولاته ومعانيه.
ج: أهل السنة والجماعة يمرون آيات الصفات كما جاءت، وهذا حق لا إشكال فيه، لكن هناك معان مركبة، ومعان مفردة، هذه المعاني المركبة تختلف؛ المعنى المفرد غير المعنى الذي يكون في السياق، وهذه المسألة فيها إطالة. غدا -إن شاء الله- بداية الدرس نشرح لكم مذهب أهل السنة في مثل هذه الآيات. نعم.
والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لمّا بين الله -جل وعلا- حال الكفار في موقفهم من يوم البعث والنشور وأنهم فريقان: فريق ينكرون البعث إنكارا جازما، وفريق يشكون في البعث، بيّن الله -جل وعلا- فيما يأتي من الآيات الدلائل الدالة على قدرته -جل وعلا- على إحياء الموتى، وهذه الدلائل هي دلائل مشاهدة، تُرى بالأبصار، ولا يستطيع أحد أن ينكرها؛ لأن إنكار الأشياء المحسوسة المعلومة المشاهدة هذا لا ينكره عاقل؛ ولهذا قال الله -جل وعلا-:
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا </A>
أي: ألم نجعل الأرض ممهدة مستقرة موطأة مذللة؛ لأن الأرض لا يمكن الانتفاع بها على الوجه الأكمل إلا إذا كانت مهيأة، وموطّأة للإنسان.
فهذه الآيات كلها تشرح هذه الآية وتبينها، كما تشرح الآية المماثلة لها في سورة طه، ففي سورة طه قال الله -جل وعلا-:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا </A>
وفي قراءة "الذي جعل لكم الأرض مهادا".
فالمهاد: هو ما بينه الله -جل وعلا- في الآيات السابقة فهذه الأرض جعلها الله -جل وعلا- لعباده ممهدة مذللة مهيأة للسكنى والعمل عليها.
لأن الأرض لو كانت تتحرك وتضطرب بالعباد لم ينتفعوا بها، وشاهد ذلك أن الإنسان لو ركب في مركبة وهي تتحرك وتضطرب به ما استطاع أن ينتفع تمام الانتفاع؛ ولهذا إذا كان في باخرة أو سفينة واضطربت الأمواج، وتحركت بهذه السفينة، فإنه لا ينتفع في هذه الحالة بمثل انتفاعه لو لم يكن هناك اضطراب.
وكذلك الإنسان الآن إذا ركب في سيارة، ثم مر بطريق غير معبّد أو فيه نتوءات فاضطربت عليه السيارة فإنه لا ينتفع وهو بداخل السيارة مثلما لو لم يحصل مثل هذا الاضطراب.
والأرض لو كانت مضطربة ما انتفع بها الإنسان، وما انتفع بها الحيوان، ولما صلحت عليها النباتات تمام الصلاحية؛ ولهذا إذا وقع حركة واضطراب في الأرض فإن الناس يفزعون، وتضطرب عليهم معايشهم؛ لأن الله -جل وعلا- جعل لهم هذه الأرض ساكنة، ولا يستطيعون أن يعيشوا عليها وهي مضطربة، فلذلك إذا حصل فيها أدنى اضطراب فزع الخلق واضطربت عليهم أمورهم.
وقال -جل وعلا-:
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ </A>
يعني جبالا كبارا؛ لتحفظها من الاضطراب، وهذه هي إحدى فوائد هذه الجبال وفيها فوائد عظيمة، قد تظهر للعباد، وقد يخفى بعضها على العباد. ولله -جل وعلا- في ذلك الحكمة البالغة.
فالله -جل وعلا- خلق من ماء واحد ذكرا وأنثى، وذلك بقدرته -جل وعلا-، وإلا فالماء واحد، يخرج من الرَّجل، ويقع في رحم المرأة ماء واحد، ولكن الله -جل وعلا- هو الذي يشاء أن يكون ذكرا أو أنثى.
ثم قال -جل وعلا-:
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا </A>
السبت: أصله القطع والمراد بهذه الآية: أن الله -جل وعلا- جعل النوم قطعا أو قاطعا لحركة الأبدان دون الأرواح، والبدن إذا انقطع عن الحركة فإنه تحصل له الراحة؛ ولهذا يفسر بعض المفسرين قوله تعالى:
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا </A>
أي: جعلناه راحة؛ لأن الانقطاع عن الحركة مع بقاء الروح هذا يورث الراحة للبدن، أما إذا انقطعت الروح فإنه يكون الموت.
وهذا النوم من أعظم الآيات الدالة على إحياء الموتى، فصفة البعث يوم القيامة … أو يبعث الناس يوم القيامة هكذا، هم ميتون ثم يستيقظون، ينزل الله -جل وعلا- عليهم ماء من السماء فينبتون ويقومون لله رب العالمين، فهناك مشابهة بين البعث بعد الموت، وبين الاستيقاظ بعد النوم، فهذه الآية من أعظم الدلائل على إحياء الموتى؛ لأنه إذا كان الله -جل وعلا- قادرا على إيقاظ العبد وبعثه بعد النوم فهو -جل وعلا- قادر على أن يحييه بعد موته.
ولهذا كان في النوم من الفوائد والنعم على هذه الأمة الشيء الكثير، فهذا النوم قد جعله الله -جل وعلا- راحة للأبدان، وجعله -جل وعلا- تذكرة للعباد؛ ليتذكروا موتهم وبعثهم إلى الله -جل وعلا.
وجعل الله -جل وعلا- في هذا النوم أيضا فائدة لعباده المؤمنين؛ إذ جعله -جل وعلا- لهم طمأنينة وسكينة حين التقوا مع أعدائهم في غزوة بدر وفي غزوة أحد، كما قال الله -جل وعلا-:
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ </A>
والنعاس: هو أول النوم، جعلهم الله -جل وعلا- في نعاس حتى تطمئن قلوبهم.
فهذا النوم قد يجعله الله -جل وعلا- طمأنينة وسكينة لعباده المؤمنين في قلوبهم؛ ولهذا كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت- يكون أحدهم ممسكا بالسيف في الغزوة فلا يستيقظ إلا والسيف يسقط من يده، وهذا من إنزال الله -جل وعلا- عليهم الطمأنينة بهذا النعاس.
فالشاهد أن هذا النوم فيه من الآيات والعظات والعبر ما يدل على وحدانية الله، وكمال قدرته على كل شيء.
ثم قال الله -جل وعلا-:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا </A>
يعني: جعل الله -عز وجل- الليل لباسا؛ لأن هذا الليل إذا غَشي الناس بظلمته عليهم يكون ساترا لهم كاللباس؛ ولهذا الناس يختفون فيه، فالإنسان يستر بدنه باللباس، وكذلك هذا الليل يستر الناس بظلامه.
ثم قال -جل وعلا-:
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا </A>
أي: وقتا للمعاش ينتشر فيه الناس، يقضون فيه مصالحهم، ويسعون فيه لأرزاقهم، يرعون فيه مواشيهم، ويطلبون فيه رزق الله -جل وعلا- وفضله.
فهذه السماوات محكمة في البناء، ليس بها شقوق ولا خروق؛ لأن الذي خلقها هو الذي بيده ملك السماوات والأرض؛ ولهذا لو قلب الإنسان بصره في هذه السماوات ليلحظ فيها خرقا أو شقا لكَلّ بصره وعجز عن إدراك شيء؛ لأن هذا هو إتقان الله
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ </A>
.
وقد جاء في حديث العباس بن عبد المطلب المشهور بحديث الأوعال:
أن كل سماء كثافتها مسيرة خمس مائة عام </A>
ولكن هذا الحديث حديث ضعيف هذا الحديث ضعيف، فيه راو مجهول، عبد الله بن عميرة راو مجهول وفي سند الحديث انقطاع؛ لأن عبد الله بن عميرة لم يسمع من الأحنف بن قيس، فهو حديث ضعيف.
والثابت: ما جاء عن ابن مسعود -رضي الله عنه- من قوله:
وبعض المفسرين يورد حديث الأوعال، أو يشير إلى حديث الأوعال عند هذه الآية استدلالا على قوله تعالى:
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا </A>
أن من شدتها أنها كثيفة كثافة مسيرة خمس مائة عام، لكن الحديث لا يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم.
ثم قال -جل وعلا-:
وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا </A>
والمراد بذلك: الشمس، والوهاج أو الوهج يجمع بين الشيئين، يجمع الحرارة والتلألؤ أو التوقد؛ ولهذا يقال: وهج النار، يجمع بين الحر والإضاءة، والشمس تجمع بينهما.
… المنعصر بالمطر، لكن لم ينزل المطر بعد، قد تشبع بالمطر لكن المطر لم ينزل، كما يقال: امرأة معصر، يعني: إذا قاربت أن تحيض، وهذا هو الأظهر في معنى هذه الآية، أن المراد "بالمعصرات": هو السحاب؛ لأن الماء ينزل من السحاب كما ذكر الله -جل وعلا - ذلك في مواضع كثيرة.
فدلت هذه الآيات على أن المراد "بالمعصرات" في هذه الآية: هي السحاب، وأما من فسر "المعصرات" بأنها الرياح التي تحمل السحاب فهذا القول يخالف أكثر آيات القرآن؛ لأن الله -جل وعلا- أثبت أن نزول الماء إنما يكون من السحاب.
ثم قال -جلا وعلا -:
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا </A>
أي: لنخرج بهذا المطر الذي أنزله الله -جل وعلا - من السماء حبا، والمراد بالحب: هو ما ينبت من النبات وييبس ويُدخر، مثل: الحنطة والشعير والأرز والذرة والفول والعدس وغيرها من هذه الأشياء التي تيبس ولا يضرها يبسها، بل تبقى.
فهذا هو الحب سواء كان يأكلها الأنعام أو الأناسي.
النبات: هو الشيء الأخضر الرطب، سواء مما يأكله بنوا آدم أو يأكله الأنعام، فهو في حال رطوبته يسمى نباتًا
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا </A>
.
يعني: بساتين ملتفا بعضها على بعض.
فهذه الآيات كلها دالة على وحدانية الله -جل وعلا - وكمال قدرته، ودالة على قدرته على إحياء الموتى بعد بعثهم، ودلائل إحياء الموتى بعد موتهم كثيرة جدًا في كتاب الله -جل وعلا.
فهذه الآيات كلها شاهدة على وحدانية الله شاهدة على قدرته، شاهدة على بعثه الموتى بعد موتهم، والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. ت